ان المتدبر في كثير من الآيات القرآنية ، يتضح له وجود علاقة مضمونية عميقة بين العقيدة الإسلامية وبين العبادة وبين القيم الأخلاقية والمسؤولية الإجتماعية. فلقد قرن القرآن الكريم في كثير من آياته بين الإيمان والعمل الصالح ، وبين الصلاة والزكاة، وبين الإيمان بالغيب والصلاة والزكاة والإنفاق وغيرها من المضامين الإجتماعية.
ولعل من أروع صور الربط القرآني بين هذه الأبعاد مجتمعة ، تتجلى في قوله تعالى (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ،أولئك الذين صدقوا ، وأولئك هم المتقون )البقرة/177.
ومع ذلك ،فإننا عندما نراجع الإنتاج الفكري في حقل العقيدة، نلاحظ غلبة الأسلوب التجريدي المحض عليه ، وهيمنة المنهج النظري البحت على كثير من بحوثه ، مما يفرض نوعا من الفصل بين العقيدة ومضامينها الحياتية وقيمها التربوية والأخلاقية والاجتماعية، ويجعلها في أحسن التقادير بحوثاً ونتاجات نخبوية أكاديمية، ذات مناظير متنوعة وآراء متنازعة، ومباني بحثية غارقة في استخدام طرق الجدل والافحام، وأساليب شديدة الغور في التجريد، إلى جانب الغموض في الخطاب، والتعقيد في أنماط التعبير، حتى يخيل إلى القارئ العادي إنها ضرب من الألغاز ونوع من الطلاسم.
ولعل المفارقة تكمن في التبريرات التي تساق للدفاع عن هذه المناهج والأساليب، التي تتستر تحت دعاوي التخصص العلمي تارة، والعمق الفكري تارة أخرى، لتسد بذلك باب النقد، وتحكم بإقصاء الرأي الآخر، وإصدار حكم ضمني ضده بكونه غير متخصص في المجال ، وبالتالي تحتفظ لنفسها وحدها ليس حق الفهم والتفسير والتأويل فحسب بل وحتى فرض الأساليب والصياغات المغلقة.
إن المضمون الاجتماعي والتربوي يكاد يكون مغيباً في العديد من مباحث العقيدة حسب المناهج السائدة، التي حولته إلى نوع من البحوث الذهنية الصرفة، التي لا يعنيها أحياناً إلا الانتصار لاتجاه عقيدي معين، ولو باتباع ضروب من التكلف في التأويل، ولي أعناق النصوص الصريحة.
ففي الإلهيات مثلاً، يُبذل مجهود كبير في تناول مسألة الأسماء والصفات، وما إذا كانت الأسماء توقيفية أوغير توقيفية والصفات إن كانت عين الذات أومغايرة للذات، وما يترتب على هذه وتلك من اللوازم حسب هذا المنظور أو ذاك، وتتفرع عنها مشكلات فكرية تشغل المسلمين ردحاً من الزمن، تتمحور حول ما إذا كان كلامه سبحانه قديماً أو حادثاً، وبالتالي إن كان القرآن قديماً أو حادثاً، وكذلك الأمر في مبحث صفات الذات وصفات الفعل، فقد تباينت الآراء تبعاً لمناهج البحث المتبعة فيها، ففريق يعدد صفات الذات إلى ستة، وآخر يوصلها إلى ثمانية، وهذا يعتبر الارادة من صفات الفعل، وذاك يصنفها من صفات الذات، وثالث يوفق بينها فيجعلها في مستويين، ورابع يتصرف في مدلولاتها، فيختزلها مرة في القدرة وأخرى في العلم والحكمة، ويدمجها مرة في معرفة النظام الأتم، وأخرى في الحب والشوق والابتهاج. والمفارقة هنا أن الكل ينشد الاتساق مع العقل والنقل والفرار من التصادم معهما.
وهكذا الحال في قضية رؤية الله سبحانه يوم القيامة بالعين الباصرة، وما إذا كانت ممكنة أو مستحيلة، وما يترتب عليها من لوازم، ومن ثم الموقف من قضية المجاز أو الحقيقة في التعبير القرآني، وغيرها من المسائل التي بحثت في هذا المضمار.
فبينما ركز البعض على الأساليب الجدلية والمناهج النظرية، صب البعض الآخر جل اهتمامه على بعض الممنوعات داخل أسوار المقابر، سعياً وراء تنزيه العقيدة النقية عما شابها من تصرفات شركية وبدعية، وفق منظوره. فكانت النتيجة أن استهلكت جهود المفكرين واهتمامات الجماهير المسلمة في قضايا ونزاعات فكرية جدلية، وغيبت المفاهيم العملية للعقيدة، وعمقت الأساليب السطحية والمفاهيم القشرية في التعامل مع القرآن الكريم.
ونفس الوضع ينطبق على بحوث النبوة، حيث تتنوع الأنظار وتتوالى الإشكاليات حول ما إذا كانت النبوة لطفاً وفضلاً، أو استحقاقاً قائماً على الجدارة والقابلية، وما إذا كان النبي (ص) هوالمعلول الأتم والأشرف والصادر الأول، الذي يجتمع فيه جانباً الناسوت واللاهوت، وعلاقة النبي والرسول بما يسميه بعضهم (بالعقل الفعال) وما إلى ذلك من قضايا شبيهة.
ولم يكن حظ المعاد ـ بطبيعة الحال ـ من التوغل في المخيلة التجريدية، أقل من سابقاتها، فمن العناوين البارزة التي حظيت باهتمام المفكرين في هذا المضمار تتلخص في: هل المعاد بالجسم أو الروح ، أو بهما معاً؟ وبأية أجسام؟ وهل تعاد برمتها، أوبما يماثلها؟ وما مستوى التماثل؟ هل في الشكل ؟ وماذا عن محددات الزمان والمكان؟ وهل تعاد بعناصرها الإنسانية وهيئاتهاالدنيوية ، أم بصورها المثالية؟ ثم مَن يستحق الجزاء، أهي الروح، أم الجسم؟ وهل انسانية الانسان بروحه، أم بجسمه، أم بهما معاً؟ وهل يعاقب الجسم الأصيل، أم البديل؟ وهكذا. تمهيداً لطرح ما سمي بشبهة (الآكل والمأكول) بحيث تعقدت المسألة كثيراً، حتى لقد أعلن الشيخ الرئيس ابن سينا عن عجز العقل عن إثبات المعاد الجسماني، حيث لم تسعفه أدوات التأويل، ولجأ إلى ما يعرف بمنهج أهل الكلام ـ رغم النكير الشديد عليه ـ معلناً إذعانه للنصوص القطعية ووقوفه عندها، وهناك من نسب إليه غير ذلك.
وهكذا طبعت هذه البحوث بالطابع النظري، وغيبت وراء هذا الركام التجريدي مفاهيم المسؤولية الأخلاقية، وفلسفة الإلزام والالتزام، ومبادئ العدل والقسط، وقيم الصلاح والاصلاح للفرد و المجتمع الانساني، في إطار العبودية الحقة لله سبحانه، تلك القيم والمثل العليا التي تنشدها العقيدة وتهدف إليها سعياً وراء تحقيق السعادة والأمن لبني البشر في الدارين، لا في إحداهما فحسب.
- الخلاصة:
وبعد، فإن هذه الخواطر التي جاش بها الصدر ونفث بها القلم، لا يراد منها التعميم على كل النتاج العقدي الاسلامي، بل القصد منها الإشارة إلى هذا الطابع البارز فيها.
وهي ليست دعوة إلى إحياء النصوصية السطحية أوالحشوية الحرفية، وإنما هي دعوة إلى تفعيل التفكير العقلي وتحريره من أسر بعض القواعد والأساليب الموروثة والنظريات الوافدة، والتي قد لا تنسجم كثيراً مع منهج العقيدة الاسلامية المتكامل، ودعوة إلى الاستهداء بروح القرآن الكريم الذي يرسم الخطوط الفاصلة الواضحة لمنهج البحث المتماسك، الذي يربط بين العقيدة والشريعة ومفاهيم الحياة العامة، ذلك أن النزوع نحوالتخصص العلمي لا يتنافى أبداً مع تأسيس منهج شمولي في البحث، يربط بين العقيدة كأسس تُبنى عليها التشريعات وفي إطارالمفاهيم والقيم الاجتماعية والأخلاقية. ومن ثم صياغة رؤية إيمانية شاملة للكون والحياة لا تنفصم عراها، يستحضرها الفقيه حال استنباطه، والمفسر حين تفسيره، وعالم العقيدة أثناء تأملاته، والتربوي والاجتماعي والاقتصادي في نظرياتهم ودراساتهم، بحيث تخرج نتاجات الجميع متماسكة متناسقة، وبذا يتجانس صريح العقل المتنزه عن الشوائب مع قطعي النقل وصحيحه.
وعليه حري بالباحثين المختصين في العقيدة أن يفرعوا منها بحوثاً ودراسات، تتمحور حول القيم والمعايير السلوكية التي ترسمها العقيدة، والانعكاسات النفسية والتربوية والأخلاقية والاجتماعية التي تتركها، كما هوالحال في العلوم الأخرى التي يتسع البحث فيها يوماً بعد يوم، لتتفرع منها أقسام جديدة وفروع مبتكرة، كما في علم الاجتماع والنفس والقانون.
ويجدر هنا التنويه بنموذج (الفتاوى الواضحة) بمقدمتها العقدية، وخاتمتها في فلسفة العبادة، للفقيه المفكر الشهيد محمد باقر الصدر الذي أحيا تقليد السالفين من علمائنا، من أمثال الشيخ المفيد في (المقنعة) في الربط بين العقيدة والفقه ومفاهيم الحياة.
وأخيراً وليس آخراً، انها دعوة إلى اقامة منهج متوازن ومتكامل يراعي بين دواعي الشكل والاطار وقواعد الصنعة التخصصية ومقتضيات المضمون والجوهر. (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) الأنعام/ 153.